Wednesday, October 15, 2008

لصار الزيتُ دمعاً\\

تجتاحني في الفترة الأخيرة أفكار كثيرة ، الغريب في الأمر أن ما من فكرة منها تمكث طويلا ، اذ سرعان ما أبدأ التفكير بأخرى ، وأستمتع بتحريك رأسي كي يصل المزيد والمزيد من الاكسجين لتلك الكتلة المنتصبة فيه ..
في الفترات الأخيرة ،.. انشغل معظم أهالي قريتي في قطف الزيتون كما هو حالهم كل عام ، رغم كون المحصول هذه السنة ليس بالوفير كما هو الحال مع السنوات السابقة الا أن المراسيم ذاتها وبلا أي انتقاص لا زالت تُمارَس ، استيقاظ باكر جدّاً ، لملمة بعض الحاجيات التي تعين على القطف :" مفارش (1) \ جدادات(2) \ شوالات (3) \ .......... مممم ولن أنسى طبعاً ما تعده نساء القرية من طعامٍ يكفي اليوم بطوله ، وأحيانا يكتفين بالمواد الأولية ليتم طهيها في العراء وتحت أشجار الزيتون ولربما اللوز حينها تستعد العائلة لمهمة البحث عن حطب يكفي لهذه العملية وان لم يوجد في البيت كفايتهم منها ، فعليهم وقتها أن يجمعوه من العراء "
كل عام ،.. أشارك عائلتي هذه المغامرات ، ولكن لسبب لا أظنه منطقياً كفاية ، أجلس الآن هنا وأتخيل ما يفعلونه ، أو بالأحرى ما فعلته معهم العام الماضي ...
لا يزال صوت محركات التركتورات (4) يصدح في أذنيَّ ، لها صوت أعلى بكثير من صوت السيارات ولها قدرة كبيرة كذلك على ملازمة أذني لفترات عديدة ، لربما يكمن السرُّ باحتكاك العجلات الغريب بالأرض ، أعمق أعمق لأكاد أظنها تأبى أن تتركها ، العائلة بأكملها تحتل ترللة (5) التركتور ، وان لم يبقَ متسعٌ للأب فانه يلازم السائق في الأمام ، أعلى..... أسفل.... يمين.... يسار وتستمر هذه الرقصة التي يرقصها سوية العائلة بأطفالها وكبارها مع التراكتور ... تستمر الى أن يصلوا الأرض التي سيمكثون فيها اليوم بطوله ليعودوا مع محصولهم في المساء...
أستطيع تذكر أول عمل يقوم به والدي في تلك اللحظة ، ينظر من حوله يحدّق في عيوني وأخوتي ، ومن ثم يقول عبارته الشهيرة عند العمل :" يا بتشتغلوا بنفس وباخلاص ... يا متشتغلوش " ... ومن ثم يتابع توزيع المهام .. أنتَ هنا ، أنتِ هناك .. افرش هنا (6).. ضع الطعام هناك .. ويمضيى الوقت سريعاً سريعاً ،..أستطيع أن أقول بأن وجود جدّتي بيننا لهو أروع شيء ، أحيانا يلزمنا كي نحتك بالأرض أن نكون معها قلبا وقالبا ، وقضية القلب هذه تتكفل بها جدّتي وهي تروي لنا حكايا كل شجرة وقصة زراعة كل واحدة ، وكم تكبدت هي وجدي الكثير كي تنتصب هذه الشجرة هكذا بشموخ وعلياء ما له مثيل ، والأروع من ذلك كله تلك الأغنيات التي تغنيها جدّتي ، الحديث هنا لا عن الكلمات التي تغيب مع تخيلاتنا ونحن نستمع اليها ، وانما ذلك الحس الموسيقي المهوزج الذي يتمايل مع الكلمات ومع شفتي جدّتي كي نكون على تلك الحالة الغريبة من الدهشة والتي تستمر معنا طويلاً

هي ييها والزيتون ع امه
هي ييها والزيت ينقط منه
هي ييها وابوي وحداني
هي ييها والله يكثّر منه
****
جدّاد لا اجرة ولا مونة
ولا كلام طيب
،..شيءٌ غريب يحصل في هذه المواسم ، عجائز القرية كلهن واللواتي يشكون من هذا وذاك من الأمراض جراء تواتر السنون عليهن ، لا يعيقهن ذلك من مرافقة عوائلهن ويستمتعن بمهمة التوجيه المرفقة ببعض من الفورات الغضبية والتي لا تلبث ان تتلاشى مع ضمة حفيد ....

اليوم مثلاً ، صباح باردٌ . مع زخات مطر كثيفة ، أخمن بأن عائلتي ستؤجل العمل الي يومٍ آخر ، ولكن المفاجئة هي رؤيتهم جميعا مستعدون لبدء يومٍ زيتونيّ جديدِ .. ومع المطر لا ضير في ذلك " يوم زيتونيّ مطريّ أرضيّ " جديد ..

- انتو غريبين أهل سبسطية ..عندكم عادّة غريبة ،.. الواحد فيكم بس بده يقول انه رايح ع الزيتون بيقول انه" رايح يجد (7) زيتون ". .. أو ... " ألحق أجدلي كمن زيتونة "...بالنسبة النا احنا بنقول :" نلقط زيتون مو نجد .." احنا أحن عليها منكم ..
اقتباس بسيط من حوار لي أنا و صمود مع أستاذ اللغة العربية ،.. لا اظن بأنه كان يعني ذلك فعلاً ، ولا أظن بأن هنالك من يطاوعه قلبه على ضرب تلك المعشوقة الخضراء ، القضية هنا ليست قضية كائن وكائن آخر بقدر كونها قضية جزء وجزء ، فهي جزء منا ، اقتطع من جدنا وصبرنا ..
أستاذي العزيز ، الفكرة برمتها مؤلمة ، فكيف التطبيق ،.. لا أكاد أتخيل بأن تلك الوجوه السمراء التي تصبح صباحا وتمسي مساءا على هذه الشجرات ، تلك الوجوه التي تعود أشد اسمراراً في المساء ملطخة بتراب هنا ..اخضرار هناك ، لتبيت أرضية حدّ الجنون ، تلك الوجوه التي تعود بابتسامات أوسع وأوسع ، لا أكاد أتخيلها قادرة على مس بوتقة حياتها ..
أتذكر تأوهاتنا ونحن نستمع لنداءات أمي كل مساء بأن نغسّل وجوهنا ونبدّل ثيابنا ، ما من أحدٍ منا يرغب بازالة الأرض من وجهه ، حتى لنكاد نشتمها حتى بعد التنظيف .. لحظات ثم يعم شعور الانتصار على محياننا ونحن نرقب البقاء .. والبقاء ولا شيء غيره
_______________________________________________________________
1 ..قطع كبيرة من القماش او من النايلون ، تستخدم لفرش الأرض تحت الشجر وذلك كي تتساقط حبات الزيتون عليه لا على الأرض مما يعين في عملية جمع المنتوج ويختصر الكثير من الوقت
2 ..عصيّ طويلة يبلغ طول الواحد منها قرابة ال3 متر ، تستخدم لضرب حبات الزيتون البعيدة والتي يصعب الوصول البها باليدين فتتساقط تلك الحبات على المفرش ...
3 ..أكياس قماشية \ نايلون تستخدم لوضع الحب فيها .. تشبه تلك المستخدمة في السكر والأرز.
4 ..الجرار الزراعي
5 ..ترللة = عربة الجرار
6 .. أي افرش المفرش حول الشجرة
7 .. أي يضرب الشجر مستخدما الجداد ، وهنا كناية عن التقاط الزيتون بطرق عشوائية تؤدي الى تقصف الأغصان

3 comments:

احمد العبرة said...

حين انظر الى الزيتون اتوه بين صفحات نفسي
واحسب نفسي ضائعا بين اغصانها
تلك الشجرة الصابرة بين احضان رمالها وترابها
حين ارى الزيتون اتالم من اجل فلسطين ومن اجل مدن فلسطين فاليوم عكا تحضن الزيت السائل من جروح الزيتون
ضمو عكا الى احضانك واقطفوها من السقوط
عكا تستنجد وتناديكم ايها المدونين
ادعوكم لتقطفو زيتون عكا من شجرة اسوارها عبر حمله التضامن من اجل عكا
فاول الغيث عكا
فشعار الحمله موجود في مدونتي
اختي عروبة سامحيني على الاطالة
فميناء عكا اقوى مني ومن تدويني
لهذا اتيت الى حضن مدوّنتك الدافئة لاصرخ من شبّاكها
لتغيثو عكا وزيتون مينائها

عابرة said...

سأقول شيء واحد وهو : ليتني معكم لأعيش تلك اللحظات و أفرح فرحت الفلاح من جني محصولة في نهاية اليوم
وأبقى أتذكر تلك الأيام ومع مرور الوقت لا انساها ابدا
فتلك اللحظات لا تنسى

انسان لا يقدر على النسيان said...

الزيتون نعمة وسجب الحفاظ عليه
اشكرك عروبة موضوع او رسالة او نسج من نسوج خيالك في غاية الروعة
الى الامام تحياتي لك