غسّان كنفاني : عكّا 1936- بيروت 8\7\1972
لستُ بارِعةً في الرِّثاءِ ، ولستُ أود أن أكونَ كذلك، سيما وسخافةُ العباراتِ تقتصُّ من ما يفترشُ مخيلتنا من أحاسيسَ ، حتى لنكادُ لا نعي أنحن حزينون ؟، أم فرحون ؟، أم تراها المراسيم المبتذلَةُ قد فعلتْ فعلتها لنبيت ببذلاتنا السوداء نتلقى عزاءاً غير منقطعٍ .
لن أقول كما يقول كثيرون بأنَّه لا يزالُ بيننا ، ولنْ يكونَ السببُ بطبيعةِ الحال خجلي من تلك المساحاتِ التي تنتظرهُ مستمعةً إلى سيل الهتافاتِ منذ ما قبل التاريخِ وأبعد .
كان يعي جيِّداً أنًَ الوصولَ إلى تلك المساحاتِ لنْ يكونَ قبل الوصولِ إلى الذين سيحملون الراية إليها ولا مجالَ للتجزئةِ ولا مجالَ لاستثناءِ بعضها أو بعضنا ، والرَّايةُ شرطٌ أساسيٌّ للوصولِ لذا فتعدد الرايات هو انعدامها بطبيعة الحال.
ترتمي الشعارات أمام مرأى عينيَّ تستقبل كلَّ ذكرى بابتسامةٍ بلهاءَ لا تعي أبعدَ من شفتين ،ننام على واحدةٍ لنستيقظَ في موعدٍ مع أخرى حتى تكاد المطابع تتهاوي خجلاً من صورهم وهي تخرج محمَّلةً على أكفِّ لم تشهدْ من أصحابها إلا ما قالوه وجاء الطاغوتُ ليخطفهم قبل أنْ يجدوا كلماتهم تحيا وتتحرّكُ ..
"إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية.. فالأجدر بنا أن نغير المدافعين..لا أن نغيرالقضية"
لمْ أكنْ أظنُّ بأنَّ بحثيَ الذاتيّ عن " أم سعد " سيكونُ بهذه الصعوبة ولمْ أكنْ سأتوقعُ ما أتكبده من عناء إخراجها من أعماقي ، خلتُ أنَّ بساطتها ستكون في صفي ، لأصلَ إليها قبل الآخرين ولكن ما لمْ أتوقعه هو ذلك الكمّ الهائل من الأسئلةِ التي أضحتْ تعصفُ بما أُمَنْطِقُهُ من خطواتٍ :
" إلى أين ؟" بات أشدُّها قسوةً والتصاقاً بدربي .
في ذكراه هذه ، لا شيءَ أتذكره أكثر من " رجال في الشمس " ، تلك التي كانتْ أولى خطواتي نحوه ، طالبةٌ كثيرةُ الشغبِ لم تتجاوزْ بعدُ سنَّها الــ 12 ، في تحدِّ كبيرِ أمامَ ماهيَّةِ هذه الصفحات التي تحتلُّ مساحةً ما من كتاب اللغة العربية الخاص بمرحلتها ، لمْ يكنْ الأمرُ يعنيني بشيءٍ ولم أعرْ اهتماماً حتى بطريقةِ معلمتنا في سردِ هذه الصُفَيْحاتِ على أنها الرواية كاملةً أوهذا ما خلتُهُ حينها ، ولكن كانتْ المواجهة الأكبر عندما انفردتُ بذاتي أنا والكتاب لأقرأها مرَّةً أخرى ولأودعها كما ودّعتُ كتابي ليكونَ لقائي بها متجدداً كل ما حننتُ إلى ذكراي والى صرخةٍ ما من شأنها أن تخرجنا من خزان جمودنا قبل أن نختنق صمتاً .
أتذكرُ الآن وفي هذه اللحظاتِ أحاديثي وصديقاتي عن عامِنا المنصرمِ ، رغم ما تكبدناهُ من هزائمَ ، إلا أن ثلاثتنا نعترفُ بميلادنا الآخر فيه ، لنْ أقولَ بأنَّ الفضلَ يعودُ له كما يعودُ لكثيرين ، بلْ سأكتفي بفولِ أن فلسطينيَّتنا التي حزَّتْ في داخلِهِ حتَّى أخرجها نماذجَ لمْ يشأْ أن تكونَ وطنيّةً إلا أنها كذلك ، إن هذه الفلسطينيَّة هي أيضاً سرُّ ميلادنا الآخر لا الأخير طبعاً ، هذه الفلسطينيَّةُ التي تجسَّدتْ من وعينا التامّ بسؤالٍ آخَر :
" ماذا نريدُ ؟" ..
هو الإنسان ، العاشقُ حتّى قضمِ الثرى ، الفلسطينيّ روحاً تنبضُ حياةً إلى ما بعدَ الحياةِ ، المصيبُ تارةً ، المخطئُ في أغلبِ الأوقاتِ ، لم يرتدْ حتَّى يصنعَ جنته فمات ولم تمت جنته كما خاصّةُ شدّاد ، بلْ أضحتْ صورةً تؤرق لياليَ الحالمين بثورةٍ.
"إنها الثورة! هكذا يقولون جميعا..و أنت لا تستطيع أن تعرف معنى ذلك إلا إذا كنت تعلق على كتفك بندقية تستطيع أن تطلق.. فإلى متى تنتظر؟!"
اليومُ ، والغضبُ يعتصرُ فؤادي وأنا أراهم يغيّرون الدرب بحجةِ ثبات الهدفِ ، الآن وأنا أرقبهم يتلاعبون بالكلماتِ التي نسجتها وطناً للوطنِ ، لا يسعني اختلاقُ أكثرَ من كلماتٍ تحيلنا في نهاية المطافِ لوجهٍ آخر من عملتهم..
"إن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق و تافه لغياب السلاح..و إنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه"
فلتعشْ..